الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وجوز أن تكون الإضافة على معنى في وقد أثبتها بعضهم وقال بها في الآية السابقة، وهي عند بعض المذكورة في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] وتكون على ما قيل عند النفخة الثانية وقيام الساعة بل روي عن ابن عباس أن زلزلة الساعة قيامها.وأخرج أحمد، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والنسائي والترمذي، والحاكم وصححاه عن عمران ابن حصين قال: «لما نزلت {سكارى وما هم بسكارى ولَكِن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 1، 2] كان صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم. قال: ذلك يوم يقول الله تعالى لآدم عليه السلام ابعث بعث النار قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحدًا إلى الجنة فانشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاربوا وسددوا وأبشروا فانها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم في الأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا» قال: ولا أدري قال الثلثين أم لا، وحديث البعث مذكور في الصحيحين وغيرهما لَكِن بلفظ آخر وفيه كالمذكور ما يؤيد كون هذه الزلزلة في يوم القيامة وهو المروى عن الحسن.وأخرج ابن المنذر، وغيره عن علقمة، والشعبي وعبيد بن عمير أنها تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وإضافتها إلى الساعة على هذا لكونها من أماراتها، وقد وردت آثار كثيرة في حدوث زلزلة عظيمة قبل قيام الساعة هي من أشراطها إلا أن في كون تلك الزلزلة هي المراد هنا نظرًا إذ لا يناسب ذلك كون الجملة تعليلًا لموجب أمر جميع الناس بالتقوى، ثم أنها على هذا القول على معناها الحقيقي وهو حركة الأرض العنيفة، وتحدث هذه الحركة بتحريك ملك بناء على ما روي أن في الأرض عروقًا تنتهي إلى جبل قاف وهي بيد ملك هناك فإذا أراد الله عز وجل أمرًا أمره أن يحرك عرقًا فإذا حركه زلزلت الأرض.وعند الفلاسفة أن البحار إذا احتبس في الأرض وغلظ بحيث لا ينفذ في مجاريها لشدة استحصافها وتكاثفها اجتمع طالبًا للخروج ولم يمكنه فزلزلت الأرض، وربما اشتدت الزلزلة فخسفت الأرض فيخرج نار لشدة الحركة الموجبة لاشتعال البخار والدخان لاسيما إذا امتزجا امتزاجًا مقربًا إلى الدهنية، وربما قويت المادة على شق الأرض فتحدث أصوات هائلة، وربما حدثت الزلزلة من تساقط عوالي وهدات في باطن الأرض فيتموج بها الهواء المحتقن فتتزلزل به الأرض، وقليلًا ما تتزلزل بسقوط قلل الجبال عليها لعض الأسباب.وما يستأنس به للقول بأن سببها احتباس البخار الغليظ وطلبه للخروج وعدم تيسره له كثرة الزلازل في الأرض الصلبة وشدتها بالنسبة إلى الأرض الرخوة، ولا يخفي أنه إذا صح حديث في بيان سبب الزلة لا ينبغي العدول عنه وإلا فلا بأس بالقول برأي الفلاسفة في ذلك وهو لا ينافي القول بالفاعل المختار كما ظن بعضهم، وهي على القول بأنها يوم القيامة قال بعضهم: على حقيقتها أيضًا، وقال آخرون: هي مجاز عن الأهوال والشدائد التي تكون في ذلك اليوم، وفي التعبير عنها بالشيء إيذان بأن العقول قاصره عن إدراك كنهها والعبارة ضيقة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام.وفي البحر أن إطلاق الشيء عليها مع أنه لم توجد بعد يدل على أنه يطلق على المعدوم، ومن منع ذلك قال: إن اطلاقه عليها لتيقن وقوعها وصيرورتها إلى الوجود لا محالة.{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَا أرضعت}.الظاهر أن الضمير المنصوب في {تَرَوْنَهَا} للزلزلة لأنها المحدث عنها، وقيل هو للساعة وهو كما ترى، و{يَوْمٍ} منتصب بتذهل قدم عليه للاهتمام، وقيل بعظيم، وقيل باضمار اذكر؛ وقيل هو بدل من {الساعة} [الحج: 1] وفتح لبنائه كما قيل في قوله تعالى: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ} [المائدة: 119] على قراءة يوم بالفتح، وقيل بدل من {زَلْزَلَةَ} [الحج: 1] أو منصوب به إن اغتفر الفصل بين المصدر ومعموله الظرفي بالخبر، وجملة {تَذْهَلُ} على هذه الأوجه في موضع الحال من ضمير المفعول والعائد محذوف أي تذهل فيها، والذهول شغل يورث حزنًا ونسياناف، والمرضعة هي التي في حال الأرضاع ملقمة ثديها وهي بخلاف المرضع بلا هاء فإنها التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الأرضاع في حال وصفها به، وخص بعض نحاة الكوفة أم الصبي بمرضعة بالهاء والمستأجرة بمرضع ويرده قول الشاعر: والتعبير به هنا ليدل على شدة الأمر وتفاقم الهول، والظاهر أن ما موصولة والعائد محذوف أي عن الذي أرضعته، والتعبير بما لتأكيد الذهول وكون الطفل الرضيع بحيث لا يخطر ببالها أنه ماذا لأنها تعرف شيئيته لَكِن لا تدري من هو بخصوصه، وقيل مصدرية أي تذهل عن إرضاعها، والأول دل على شدة الهول وكمال الإنزعاج، والكلام على طريق التمثيل وأنه لو كان هناك مرضعة ورضيع لذهلت المرضعة عن رضيعها في حال إرضاعها إياه لشدة الهول وكذا ما بعد، وهذا ظاهر إذا كانت الزلزلة عند النفخة الثانية أو في يوم القيامة حين أمر آدم عليه السلام ببعث بعث النار وبعث الجنة ان لم نقل بأن كل أحد يحشر على حاله التي فارق فيها الدنيا فتحشر المرضعة مرضعة والحامل حاملة كما ورد في بعض الآثار، وأما إذا قلنا بذلك أو بكون الزلزلة في الدنيا فيجوز أن يكون الكلام على حقيقته، ولا يضر في كونه تمثيلًا أن الأمر إذ ذاك أشد وأعظم وأهول مما وصف واطم لشيوع ما ذكر في التهويل كما لا يخفي على المنصف النبيل.وقرئ {تَذْهَلُ} من الاذهال مبنيًّا للمفعول، وقرأ ابن أبي عبلة واليماني {تَذْهَلُ} منه مبنيًّا للفاعل و{كل} بالنصب أي يوم تذهل الزلزلة، وقيل: الساعة كل مرضعة {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أي تلقى ذات جنين جنينها لغير تمام، وإنما لم يقل وتضع كل حاملة ما حملت على وزان ما تقدم لما أن ذلك ليس نصا في المراد وهو وضع الجنين بخلاف ما في النظم الجليل فإنه نص فيه لأن الحمل بالفتح ما يحمل في البطن من الولد، وإطلاقه على نحو الثمرة في الشجرة للتشبيه بحمل المرأة، وللتنصيص على ذلك من أول الأمر لم يقل وتضع كل حاملة حملها كذا قيل.وتعقب بأن في دعوى تخصيص الحمل بما يحمل في البطن من الولد وان اطلاقه على نحو الثمرة في الشجرة للتشبيه بحثًّا ففي البحر الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة.وفي القاموس الحمل ما يحمل في البطن من الولد جمعه حمال وأحمال وحملت المرأة تحمل علقت ولا يقال حملت به أو قليل وهو حامل وحاملة، والحمل ثمر الشجر ويكسر أو الفتح لما بطن من ثمره والكسر لما ظهر أو الفتح لما كان في بطن أو على رأس شجرة والكسر لما على ظهر أو رأس أو ثمر الشجر بالكسر ما لم يكبر فإذا كبر فبالفتح جمعه احمال وحمول وحمال اهـ. وقيل: المتبادر وضع الجنين بأي عبارة كان التعبير إلا أن ذات حمل أبلغ في التهويل من حامل أو حاملة لاشعاره بالصحبة المشعرة بالملازمة فيشعر الكلام بأن الحامل تضع إذ ذاك الجنين المستقر في بطنها المتمكن فيه هذا مع ما في الجمع بين ما يشعر بالمصاحبة وما يشعر بالمفارقة وهو الوضع من اللطف فتأمل فلمسلك الذهن اتساع.{وَتَرَى الناس} بفتح التاء والراء على خطاب كل واحد من المخاطبين برئية الزلزلة والاختلاف بالجمعية والإفراد لما أن المرئي في الأول هي الزلزلة التي يشاهدها الجميع وفي الثاني حال من عدا المخاطب منهم فلابد من إفراد المخاطب على وجه يعم كل واحد منهم لَكِن من غير اعتبار اتصافه بتلك الحالة فإن المراد بيان تأثير الزلزلة في المرئي لا في الرائي باختلاف مشاعره لأن مداره حيثية رؤيته للزلزلة لا لغيرها كأنه قيل وتصير الناس سكارى الخ، وإنما أوثر عليه ما في التنزيل للإيذان بكمال ظهور تلك الحال فيهم وبلوغها من الجلاء إلى حد لا يكاد يخفى على أحد قاله غير واحد.وجوز بعضهم كون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والأول أبلغ في التهويل، والرؤية بصرية و{الناس} مفعولها، وقوله تعالى: {سكارى} حال منه أي يراهم كل واحد مشابهين للسكارى، وقوله تعالى: {وما هم بسكارى} أي حقيقة حال أيضًا لَكِنها مؤكدة والحال المؤكد تقترن بالواو لاسيما إذا كانت جملة اسمية فلا يقال: إنه إذا كان معنى قوله تعالى: {تَرَى الناس سكارى} على التشبيه يكون {وما هم بسكارى} بالمعنى المذكور مستغنى عنه، ولا وجه لجعله حالًا مؤكدة لمكان الواو، وجوز أن يكون {تَرَى} بمعنى تظن فسكارى مفعول ثان، وحينئذٍ يجوز أن يكون الكلام على التشبيه والجملة الاسمية في موضع الحال المؤكدة؛ ويجوز أن يكون على الحقيقة فلا تأكيد هنا، وأمر إفراد الخطاب وما فيه من المبالغة بحاله، وأيًّا ما كان فالمراد في قوله تعالى: {وما هم بسكارى} استمرار النفي، وأكد بزيادة الباء للتنبيه على أن ما هم فيه ليس من المعهود في شيء وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله، وأشير إلى سببه بقوله تعالى: {ولَكِن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} أي إن شدة عذابه تعالى تجعلهم كما ترى، وهو استدراك على ما في الانتصاف راجع إلى قوله تعالى: {وما هم بسكارى} وزعم أبو حيان أنه استدراك عن مقدر كأنه قيل هذه أي الذهول والوضع ورؤية الناس سكارى أحوال هينة ولَكِن عذاب الله شديد وليس بهين وهو خلاف الظاهر جدًّا.وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {تَرَى} بضم التاء وكسر الراء أي ترى الزلزلة الخلق جميع الناس سكارى.وقرأ الزعفراني {تَرَى} بضم التاء وفتح الراء {الناس} بالرفع على إسناد الفعل المجهول إليه، والتأنيث على تأويل الجماعة.وقرأ أبو هريرة وأبو زرعة وابن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا {الناس} وترى على هذا متعد إلى ثلاثة مفاعيل كما في البحر؛ الأول: الضمير المستتر وهو نائب الفاعل، والثاني: {الناس} والثالث: {سكارى} وقرأ أبو هريرة وابن نهيك {سكارى} بفتح السين في الموضعين وهو جمع تكسير واحده سكران، وقال أبو حاتم: هي لغة تميم، وأخرج الطبراني وغيره عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {سكارى} كعطشى في الموضعين، وكذلك روى أبو سعيد الخدري وهي قراءة عبد الله وأصحابه وحذيفة وبها قرأ الأخوان وابن سعدان ومسعود بن صالح، وتجمع الصفة على فعلى إذا كانت من الآفات والأمراض كقتلى وموتى وحمقى، ولكون السكر جاريا مجرى ذلك لما فيه من تعطيل القوى والمشاعر جمع هذا الجمع فهو جمع سكران، وقال أبو على الفارسي: يصح أن يكون جمع سكر كزمنى وزمن، وقد حكى سيبويه رجل سكر بمعنى سكران.وقرأ الحسن والأعرج، وأبو زرعة، وابن جبير والأعمش {سكارى} بضم السين فيهما، قال الزمخشري: وهو غريب، وقال أبو الفتح: هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أقتاني أبو على وقد سألته عنه انتهى.وإلى كونه اسمًا مفردًا ذهب أبو الفضل الرازي فقال: فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة من الإناث لَكِنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد، وعن أبي زرعة {سكارى} بفتح السين {بسكارى} بضمها، وعن ابن جبير {سكارى} بفتح السين من غير ألف {بسكارى} بالضم والألف كما في قراءة الجمهور، والخلاف في فعالى أهو جمع أو اسم جمع مشهور. اهـ.
|